[ تندرج هذه القصائد ضمن ملف "الموجة الجديدة في الشعر السوري (أثر الحرب)" الذي ستقوم جدلية بنشره على مدار الأسبوعين القادمين ]
وصول الجثمان
لا شيء يحصل
في ريفٍ في مدينةٍ ساحلية
الذي يحصل
أن لا شيء يحصل، في مقبرة ٍفي ريف ٍفي مدينة ساحلية.
الفتيانُ
صعدوا أدراجاً خفية في الليل
ونثروا وروداً على سطحِ الجارة
القوافل آبتْ، بالغدِ الأعمى
والتجارُ فرشوا هاويات مضيئة على الأرصفة.
مرّتِ الجنازةُ مسرعة.
نهضَ مرضى، من حافةِ الأسف
ولعّبوا الهواءَ بالخناجرِ القصيرة
والصيحاتِ الثاقبة.
الثاراتُ
هبطتْ في المجرى المريب
وبَردَ دمُ النهار.
مرّتِ الجنازةُ مسرعة.
عشرون نجاة في الرصاصةِ الواحدة
عشرون
قميصاً مدمّى، في شرفةِ الوالدة
والألمُ
يوزّعُ
العطايا الشقية.
مرّتِ الجنازةُ مسرعة.
الشمسُ تردّدُ مقتلةَ الشفاه
ويضجّ هواءُ الأختين، في الباحات.
الصراخُ يأتي
من جهةِ النسيمِ يرقّ
ويبترد.
لا أيامَ بيضاء في حقائبِ الجنود
لا
قصائدَ نائمة
الأمهاتُ
تصرّمنَ الوقتَ في تنظيفِ الأوسمة
والأبوابُ تتخلّعُ
من الفقدان
مرّت الجنازةُ مسرعة
سريعاً
مرّت
الجنازة.
أمام الحديقةِ الخرساء
أمام الأبدِ الأخرس
جاءَ المتبطّلون والعشاق والبصّاصون
وكاتبو أعمدةِ الرثاء
جاءَ أيلولُ بتفاحةِ كتفٍ مكسورة
قرأ سجينٌ فارّ: ولا تحسبنّ .....
مرّت الجنازةُ
مرّت
الجنازةُ
مسرعة.
خرجَ
كمالٌ حائرٌ من رسائل مرهقة.
خرجَ
نهارٌ
من قبعة الشرطي
وخرجنا
صامتين، في سبيلٍ يضيق أكثر
كلّما
انفرجتْ مقبرة
كلّما
ارتمى جثمان.
سيأتي المساءُ جارحاً كما ينبغي أن يأتي مساءٌ جارحٌ
ثقيلاً
على بيتٍ في الأطراف
سيأتي مساءٌ يشبهُ ليلاً كسيحاً
رفوفُ النحلِ ستُعقد على نرجسةٍ مهملة
وفي المدخلِ، حيث يرقدُ الألمُ ككلب
تهرعُ صبية إلى رسائلها المعطرة
وتنتحب .
سيعودُ الزمانُ الذي تثلّمتْ أطرافه
وتنتبهُ الوالدة أن غسيلها يقلّ
والخبزَ يجفُّ على المائدة
وأن يديها فارغتان فارغتان.
ستقولُ:
ليتني لم أفكّر بالنظافة
ليتني
لم أغسلْ يدي من آخر عناق.
مرّتِ الجنازةُ مسرعة.
مرّتِ
الجنازةُ
مسرعة.
أيلول السريع
هبطَ أيلولُ السريع
من البابِ الخلفي لسيارة الإسعاف.
الدرّاجون
عبروا أنفاقاً معتمة
والنهارُ اكتفى
الأختُ الصغرى ركعتْ عند العتبة
كآخر موهبةٍ للصيف
والأخرى
البعيدةُ، في مطارح باردة
يداها ذابلتان
وليلها ناصع.
النسوةُ الصغيرات، الواجمات
على طولِ الفاجعة، من المطار الصغير
إلى المقبرة
رامياتُ الزهور المقطوفة فجراً
ناثراتُ الأرزِ القليل
والدعاء الذي يصلُ مسامع الحسين
فيصغي
ويرتجف.
النائحاتُ
على ولدٍ ليس لهنّ فيه سرّة
والمرضعاتُ، وقوفاً، على بركة النهار الآفل
والمريضاتُ
والمتحسّراتُ
والكاتماتُ ألماً
والمضمراتُ حزناً
والراجفاتُ
والقانطاتُ
والحائراتُ
والخائفاتُ
والعابراتُ إلى فقد ٍشبيه
وخالياتُ الهمّ
إلا همّ الجنازة
والمهجوراتُ
والهاجراتُ
والنائحاتُ
النائحاتْ... .
طريق المقبرة
أمّهاتٌ، طيورٌ برياش سوداء
نزلنَ اليومَ بأقدامٍ راجفة
في الطريقِ
إلى "بسنادا" الرمادية.
أضأن
لبرهة، رهابَ البيوت على الجانبين
واختفين
في الدويّ الهائل
للحشود، على بقايا المتاريس.
صوتُ المعاول يصعدُ وينخفضُ
والأمهاتُ الغارقاتُ في التجديف
بدموعهن الصامتة
يحترقن بنسيسٍ هادئ، تحتَ غيمٍ يتكاثف
ونيزكٍ ينهمر.
جناةٌ
وحفّارون بطيئون
محوقلون وحفظةُ سطور
في الطريقِ
في الطريقِ إلى مقبرة "بسنادا".
تلك الوالدة
بكتفين لامعين، تصيحُ خلف القافلة:
لا تمتْ يا بني
لأني
زرعتُ لك حصصاً من الرمّان
في الجنّة.
القافلةُ تضربُ
على غير عجل، في ظلالِ الصنوبرِ الثقيلة
والجداولُ
تئنُّ من الهجران
مئةُ يد تصفقُ الهواء المثخن
ويدٌ
بمفردها للمراثي.
: لا تمتْ لأن في نيسان نحيلات فاتنات.
الملائكةُ والسحبُ
الملائكةُ والسحبُ وآلُ البيت
في الطريقِ
في الطريقِ إلى مقبرةِ "بسنادا"
جفّتْ صفوفُ الليمون
ونافخو الأبواقِ في الفرقة النحاسية
ذهبوا إلى النداءِ المخيف
رائحةُ البخورِ تكسّرتْ
وتلك الوالدة
بكتفين لامعين
على دربٍ ترابي تصيح:
لا تتركني يا بني
لا تمتْ
في حربٍ جائرة.
أوقات ميتة
في الحربِ
تحيكُ الأرملةُ ممرّاً طويلاً للوفودِ الذاهلة
وتتذكّرُ الفاتحة
مثلما تتذكّرُ طرفةَ الزوج الأخيرة
قصيرةً
وماجنة.
في الحربِ
تخفقُ رايةٌ سوداء فوق مصيرٍ غامض
وتشرقُ شمسٌ كالحة جهةَ عدو لا أراه.
في الحربِ
أجدُ جثامين طافية
بقبعات مسرحية وقفازات ملونة
واليومُ تفاحة معطوبة تترمّد قربهم.
في الحربِ
لا أستقبلُ موسيقيين ولا كتّاب أعمدة سريعة
بل أجدّدُ قماشَ الستائر
كأي زوجة ساهية.
في الحربِ
طيورٌ جارحة
وضباعٌ رمادية، جرحى يتساءلون عن مواعيد الهجوع
وبطاقات اسمية بلغةٍ غريبة.
في الحربِ
أسيادٌ يلهبون الخيول
لتستمرّ بالعدو، فوق أبدانٍ تتفجّر
وموتى
تستمرُّ أظافرهم بالنمو، في الصور.
في الحربِ
أموتُ من السأم
ومن كتابةِ الرسائل العاطفية
إلى جيراني الأموات
أخرجُ من نهاري، مرّتين، لأحصي الأبد.
في الحربِ
أغطي ابنتي بكلمات جافّة
وأتفقدُ غداً قد لا تبدّده.
من يدي، من فراغ يدي
ومن الفراغِ الذي تصنعه يدي
رأيتُ الطريقَ إلى دمشق، مفروشاً باللحم الحي.
الأيامُ الواهنة
الأيامُ التي جرّحتْ أعرافها نبالٌ ضالّة
الأيامُ البيضاء، أيامُنا، أيامُ المعاول الكليلة
والزراعات المبكرة
استمرّت، هناك، في المختليات، وراء الوقت
بدوننا
بدون معارفنا المهملة
وأحاجينا المقفّاة.
أيامُ الغلال متروكاً
لندى يتكثّفُ ويزولُ، يتكثّفُ ويزول
الأيامُ الراقصةُ
الأيامُ الجانحةُ
الأيامُ المطويةُ كصيفٍ رطبٍ
والمفرودةُ كصيفٍ رطبٍ
أيامُ العَدْو خلف ظلّ يتباهتُ
أيامُ القطعان المسمّنةِ بالآيات
والمحميّةِ بالبسملة
بقيتْ هناك، خيطاً أسود في ليل.
وفي العتمةِ الكثيفةِ الجافة
في كثافةِ العتمةِ الكثيفةِ الجافة
وضعنا برتقالاً للقادمين من الأريافِ البعيدة
برتقالاً
من الأريافِ البعيدة
وسكاكين مطبخ
وأحزمةً جلدية
ومناديل .
خرجنا خفافاً من طرقِ الرعاة
خفافاً كأنْ من دخان
كأنْ من لهاثٍ على زجاج القرى
وكتمنا ألماً
كادَ لفتنته يُضيء.
رمينا على المائدة
مصاحفَ صغيرةً وتمائم
لتنقذهم من أشباحٍ اعتدناها
حبقاً
وأزهاراً شاحبة
لتذكّرهم بقصائد قديمة
وضبطنا الوقتَ على أغنيةٍ
تتحدّثُ عن الحصادِ في الريفِ البعيد
وعن أرقِ الحاصدات اليانع
لئلا يقلقوا من خوفنا
ويغضبوا من بساطتنا السخيفة
ومن إطلاقنا اسم الحسين
على كلّ مولودٍ جديد
وخرجنا.
كانت الأرغفةُ محروقة قليلاً
فأكثرنا الوسائدَ
والألبسةَ الصوفية
والتينَ المجفّف
قلنا:
ربما لهم ما لنا
من وحشةِ الغرباء
وعليهم ما علينا
من
رحمةِ الأنساب.
آذارُ يخفتُ في التقويم
والربيع يوشكُ على الاختناق
العربات تئنُّ من الأحمالِ في المماشي الضيقة
ولهاثُ القطعانِ يضجُّ.
الأسماءُ أيضاً غادرناها مسرعين
وتدبرنا قصصاً
تلطّفُ معانيها
كأن نقول:
اسمها روزماري
لكنها شجرة
شجرةُ زيتونٍ وحيدةٌ فحسب.
بالكاد
بقي لنا ما ننادي به أصغرنا.
العشبُ ينحني تحت الخطى المرتابة
الفضةُ تكمدُ في القلائد
والسور تتصادى.
حملنا ما استطعنا من أهالينا
وأجزاءَ خفيفةً من أدعية السفر
من المصائرِ ما خفّ
ومن المشاعرِ أقلّها عناداً
أمّا
بطاقات الزفاف، العبارات التي نتبادلها صباح الأضحى،
الأسرّة النحاسية المجلوبة من مراكش غامضة، أباريق
الوضوء، النهايات السعيدة للولادات الأخيرة، مدامع الفضة
الخزفيات الروسية المزركشة، رسائل الأبناء
في الخليج الظالم
فتركناها تنشج في العراء.
الكلماتُ تقلّصتْ
والأحرفُ أخشابٌ سوداء في الحلوق.
بالكاد
بقي لنا ما نتألّم به، ما نسمّي به خوفنا من المرتفعات
بالكاد
نجا
اسمُ النبيّ من الطغيان .
لا نتوجّعُ من أغنية
لا نندمُ على ساعاتِ الفجرِ الناقصة
لا نقفُ أمام الغدران ونتساءل:
لماذا يموتُ موتى سابقون بهذا القدر؟
لا
نتفجّعُ
على
تلةٍ
دامية.
النداءُ طافَ حول أعرافِ الخيول
والاستغاثةُ رقدتْ
الخطى تسترقُ سمع الطريق
والذئابُ تجمّع نفسها، فوق الجروف المقمرة.
لا نصرخُ
بل نتفحّصُ كلماتٍ محترقة على الأضلاع
لا نبكي
بل نهجرُ الأبديةَ، في طريق دمشق.
يا لهذا المسير الذي تخطرُ به حظوظ النزوح
يا لهذه النهايات الإغريقية
يا للموتِ، يا للفناءِ المُسكر
يركضُ تائهاً في خيطِ دم، على طريقِ دمشق.